الجمعة 20 رمضان 1445 - الموافق 29-03-2024
آخر الأخبار

تأملات في البيان القرآني: الجملة القرآنية

تأملات في البيان القرآني: الجملة القرآنية

د. إبراهيم عوض

 

 

 

تأملات في البيان القرآني: الجملة القرآنية

 

 

للقرآن الكريم منهجَه البياني المُعجِز في ترتيب جملته التعبيريَّة؛ بحيث نرى في بعضها - على منهج النحويِّين - تقديمًا وتأخيرًا، ونرى في بعضها كذلك - على نفس المنهجِ - مُوافَقةً للترتيب الطبيعي، وكان ذلك أوضح في الجُمَل المتشابهة التركيب، المُتوافِقة اللفظِ، المُتميِّز بعضُها عن بعض بتقديم كلمة هنا، وتأخير مثيلتها هناك.

ولا شك في أن مثل ذلك - في كتاب واحد، مصدره واحد - يُثير الفكر، ويَلفت النظر، ويدعو للتأمل، بحيث يستطيع المُتأمِّل من خلال تأمُّلاته أن يَكشِف عن سرِّ ذلك الاختلاف بين تلك الجمل المتشابهة، فهو إما أن يكون راجعًا إلى خلطٍ واضطرابٍ في التأليف، وإما أن يكون راجعًا إلى دقَّة بيانيَّة شاملة يعجز الكائن عن التزامِها والقيام عليها في كل حالاته.

ولقد وقفنا في تأملاتنا السابقة - بتوفيق مِن الله سبحانه - على بعض هذه الجوانب التي رأينا فيها سرًّا مِن أسرار التقديم والتأخير في الجملة القرآنية، ثم من خلال تأمُّلاتنا كذلك عرَفنا أن هذه الأسرار إن هي إلا سرٌّ مِن أسرار الإعجاز البياني في القرآن الكريم، فقد كشَف هذا التأمُّل عن أن المَخلوق لا يُمكِن بأي حال من الأحوال أن يكون في أثناء تعبيره على مثل هذا الوعي الشامل الكامل بكل أبعاد الموقِف، وأنه لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن يكون على مثل هذا الإدراك الشامل الكامل لكل أسرار الكلمة ومُحتوياتها؛ بحيث يضَع الكلمة المناسبة أتمَّ التناسُب في مكانها المُناسِب، فتحول التركيب البياني بذلك من تركيب مصنوع إلى تركيب مأثور، يرى فيه بُلغاء العرب وأدباؤهم مُعجَمًا تركيبيًّا، وليس كما اعتاد الأدباء واللغويون أن يُطلِقوا عليه: مُعجمًا لفظيًّا يقوم على المُفرَدات.

كما كشف تأمُّلنا في بعض تلك الجمل عن أن ما نعتبره تقديمًا وتأخيرًا في ترتيب طبيعي للجملة - تيسيرًا على المتعلمين - يُعتبَر ما عداه خروجًا على الأصل يحتاج إلى تعليل وتفسير، أما في الجملة القرآنية، فكل شكل جاءت عليه الجملة - في حدود بحثِنا وتأمُّلاتنا - هو ترتيب طبيعي للجملة لا يصحُّ غيرُه، ولا يَسلم في ذات المَوقِف والمُلابَسة سواه.

وعلى منهجِنا الذي التزمناه في مسيرتنا مع البيان القرآني سوف نَسير اليوم كذلك مُتأمِّلين في بعض الجمل القرآنية إكمالاً للبحث، وتقريرًا لما كشفَت عنه تأملاتنا السابقة.

يقول - سبحانه وتعالى - في سورة المؤمنون: ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا ﴾ [المؤمنون: 83]، ويقول في سورة النمل: ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا ﴾ [النمل: 68]، نقرأ الجملتين فنجد اختلافًا في التركيب نشأ من التقديم والتأخير.

ولا يسَعُنا إزاء ذلك إلا أن نرجع النظر في كلٍّ مِن الآيتين في موطِنهما لنتعرَّف على مُلابَسات كلٍّ منها وما يتعلق بذلك.

ونبدأ ذلك النظر والتأمُّل بالتوجه إلى مَن حُكيَت هاتان الجملتان على ألسنتهم، فنجد أن قائلها في الآيتين هم مُنكرو البعث.

ونوجِّه فِكرنا وتأمُّلاتنا إلى صيغة كل جملة على حِدَة، ثم نَنتقِل من ذلك إلى مَساقِ كل جملة لنتعرف على السرِّ في تلك المُغايَرة، ونقف على الدافع إليها.

نُعيد قراءة الجملة الأولى التي تضمَّنتها سورة المؤمنون، فنلاحظ أنها جاءت على الترتيب الطبيعي لبناء الجملة العربية، على ما قرَّره مُقنِّنو اللغة وواضعو قواعدها؛ حيث قُدِّم المفعول الأول وتابعه - وهو ضمير المتكلم "نا"، وتابعه وهو "نحن وآباؤنا" - على المفعول الثاني وهو "هذا" المُشار به إلى الموعود.

هذا في حين جاءت الجملة الثانية مُخالفةً للترتيب النحوي؛ فقُدِّم المفعول الثاني على تابع المفعول الأول، أو بتعبير آخر: وقَع المفعول الثاني بين المفعول الأول وتابعه.

ولا نجد إزاء هذا بُدًّا من أن نُعيد النظر في الآيتين، على أن يكون نظرًا شاملاً، يَتناول الجو العام لكل مِن الآيتَين، والمَوقِفَ الذي نشأ عنه ذلك الجوُّ العام، والمُلابَسات التي تطلَّبت ذلك الموقِف.

ونبدأ من ذلك بآية المؤمنون، فنلحَظُ أنها جاءت في مَعرِض حديث شامل يَتناول المؤمنين والكافِرين؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 51 - 56]، وعلى هذا المنهج تسير الآيات، كاشفةً للمُتلقِّي ما خفيَ مِن طبائع وأحاسيس ومشاعرَ لدى المؤمنين، ولدى غير المؤمنين، مُقدِّمة من خلال ذلك صورةً واضحةً لكلٍّ مِن الفريقين.

وفي أثناء ذلك تُركِّز على الكافرين، فتتناولهم في مواقف عديدة، تَختلف في مظهرها، ولكنها تلتقي جميعًا عند نقطة واحدة؛ هي إنكار وجود الله، وما يتَّصل بذلك مِن حساب وجزاء وبعث، فتعرض مشهدًا من مشاهد القيامة بما ينال أمثال هؤلاء فيه، وما يضطرون إليه من تناكر وتدابُر، وندم ويأس، إلى غير ذلك من مظاهر الأسى والحسرة، ﴿ وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ ﴾ [المؤمنون: 62 - 67].

وتنقُلنا الآياتُ من ذلك المشهد المذكور العابر إلى تساؤلات متوالية، قصد بها وضع الحقائق أمام أعينِهم، ولفت أفكارهم وعقولهم إليها، تقريرًا لتلك الحقائق، وتذكيرًا لهم بما قد يكون غابَ عنهم أو تجاهَلوه عن قصدٍ منهم وتعمُّد؛ ﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [المؤمنون: 68 - 72]، ثم تَنتقِل من ذلك إلى الحديث عما يدعوهم إليه الرسول، وما يُقابلون به ذلك من إنكار وجُحود، ﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾ [المؤمنون: 73، 74].

وبعد أن عرضَت الآيات ما يقابلون به رحمةَ الله إذا أنزَلَها بهم من استمرار في طغيانهم، ثم ما يُقابِلون به عذاب الله حين يُفتَح عليهم بابُه - بعد ذلك أخذت الآيات في التذكير بنِعَم الله علينا؛ أملاً في أن يصل هؤلاء إلى حقائق تكوينهم، فيتواضَعوا شيئًا أمام الله، ويُحسوا بأن ما ينخدعون فيه مِن قُوًى لدَيهم إنما هي جميعًا مِن صُنعِ اللهِ، منَّ بِها عليهم؛ ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ * وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 78 - 80]، وهنا تُسمِعُنا الآيات صوتَهم، وتحكي منطقَهم في مواجهة هذه النِّعَم الغامرة لهم، بما يَكشِف عن غرور قاتل يُشاركون فيه أمثالهم ممَّن تقدَّموهم في الزمان، ﴿ بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ * قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [المؤمنون: 81 - 83].

فالمَوقِف بكل أبعاده يَدور هنا حول هؤلاء الكافرين في أحداث عدَّة، إذا ضُمَّ بعضُها إلى البعض الآخَر كوَّنت لنا صورةً واضحةً جليَّةً لهؤلاء الكافرين في جيلهم هذا وفيما سبَقهم مِن أجيال، فهم مُتماثِلون لا يكاد الحديثُ منهم يَختلِف عن القديم.

أي إن الحديث في هذه الآيات يدور حول تلك الفِرقة مِن الناس؛ فالآيات تتكلَّم عنهم وعن آبائهم، وهم في مُواجَهة ذلك يتكلَّمون عن أنفسهم وعن آبائهم.

ومِن ثمَّ كان قولهم الذي أرادوا به إنكارَ البعث من خلال تهكُّمهم وسُخريتهم - على ما جاءت به الآيات الكريمة - موافقًا أتمَّ الموافقة لِما يتطلبه الموقف في مجال التعبير، ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا ﴾.

فالماثل في ذاكرتهم في هذه الحالة بالدرجة الأولى عن: هم وآباؤهم؛ لأن الحديث من أوله يدور حولهم، ويتعلق بهم، فهم وآباؤهم محور الحديث، ولكن ما جاء حول ذلك من موضوعات أخرى إنما هو تابع لذلك.

ومِن ثمَّ لم يكن ليصحَّ لدى البيان القرآني أن يُغير الترتيب التركيبي لتلك الجملة هنا، وإلا لما وافقت ما جاءت فيه، ولَمَا كانت تعبيرًا مُطابقًا لواقع المحكي عنهم؛ أي إن ترتيب الجملة على هذا النسَقِ إنما رُوعي فيه المَوقِف الذي يُعبر عنه فحسب، وليس هناك التزام بترتيب قاعدي مُعيَّن، فترتيب التركيب في الجملة القرآنية على هذا لا يخضَع إلا لما يَقصِد بيانه والكشف عنه.

أما آية النمل فلحظ أنها جاءت في معرض الحديث عن طائفة من أنبياء الله، وما قُوبِلوا به من قومهم الذين آثروا الشرك على التوحيد، وما أصاب هؤلاء المشركين من جراء ذلك، وما استدعاه كلُّ هذا من عَقدِ مقارنة بين الله - سبحانه وتعالى - وشركائهم.

وكان مُعتمد هؤلاء المشركين في موقفِهم على إنكار كل ما يَعِدُهم بهم نبيهم، والسخرية من ذلك، بل واللجوء إلى العنف في مُواجَهةِ أنبيائهم تأكيدًا لما يُقابلون به وعيدَ الله إياهم مِن إنكار؛ ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [النمل: 45 - 53]، وشبيهًا بمَوقِف ثمود من صالح كان موقفُ قوم لوط من لوط، إنكارًا لِما يَعِدهم ويتوعدهم به، وإصرارًا على ما هم فيه من خطايا وفواحش؛ ﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ ﴾ [النمل: 56 - 58].

وهكذا تتقدَّم الآية بالرد القاطع على هؤلاء المُنكِرين المخدوعين، فتُقدِّم أحداثًا وقَعَت في الدنيا، رآها وعلِم بها مَن أصابته ومَن لم تُصِبه؛ فهي أوضح دليل على أن موعودَ الله مُحقَّق لا شكَّ فيه.

ولا تقف الآيات عند حدِّ تلك المَعارض التي تُقرِّر هذه القضية، ولكنها تضمُّ إلى ذلك معرضًا آخر يَخدم نفس القضية؛ حيث تُعقَد مُقارنات بين الله - سبحانه - وبين ما يُشرِك هؤلاء المُشركون، تكشف عن قدرة الله عزَّ شأنه، وتَكشِف عن سلطانه؛ ﴿ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [النمل: 59 - 68].

فالمَوقِف بكل أبعاده - كما يَرى المتأمِّل - يدور هُنا حول موعود الله - سبحانه وتعالى - وخصوصًا البَعث.

المُشركون يُنكِرون على رسلِهم ما يتوعَّدونهم به إذا هم ظلُّوا على إفسادهم، ويظلُّون على إنكارهم حتى تفاجئهم الويلات في الدنيا لفتًا لأنظارهم، وتنبيهًا إلى مَن وراء تلك الويلات الدنيوية، لعلهم يَرعَوُون ويَربِطون بين ما يُصيبُهم في الدنيا، وما توعَّدهم به الرسلُ في الآخرة، ولكن دون جدوى، فهم في غيِّهم يَعمَهون، وهم في ضلالهم مُستمرُّون.

وزادَهم ذلك العنادُ ضلالاً على ضلال، فانتقَلوا من حالة إلى أسوأ منها، حتى أنكروا البعث وجحدوه، فهم أولاً ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾ [النمل: 65]، ثم كانوا في شكٍّ من أمر الآخرة، زاد وفاض، فأصبحوا في عَمى عنها ﴿ بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ ﴾ [النمل: 66].

وهكذا تطوَّر المَوقِف، وانتقَل مِن الحديث عن موعود الله في عمومه، إلى تخصيصه بموعود واحد، هو البعث بعد الموت في الآخرةِ ليَنال كلٌّ جزاءَ ما عمل في دنياه.

ومِن ثم كان قولهم الذي أرادوا به تقرير ما هم عليه مُعتمدًا على الموعود الذي يُنكِرونه والذي يدور حوله الحديث من أول الأمر، أي إن الموقفَ بمُلابساته هنا يَختلِف عن الموقف بملابساته في سورة المؤمنون، ومِن ثَمَّ كان ما يَستدعيه المَوقِف بملابساته في سورة النمل مُختلِفًا عمَّا يَستدعيه الموقف بمُلابساته في سورة المؤمنون.

ومِن ثَمَّ كان قولهم الذي أرادوا به إنكار البعث من خلال تهكُّمِهم وسُخريتِهم - على ما جاءت به آية النمل - مُوافقًا أتمَّ المُوافَقة لِما يتطلَّبه المَوقِف في مجال التعبير؛ ﴿ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ ﴾ [النمل: 68]، إذ الماثِلُ في ذاكرتهم في تلك الحال بالدرجة الأولى هو ما وعدوا به؛ لأن الحديث من أوله - كما رأينا - يدورُ حول موعود الله إياهم على ألسِنةِ أنبيائهم والمُرسَلين.

فالوعد والإيعاد - وخصوصًا البعث وما ينتظرهم معه - هو مِحوَر الحديث في آيات النمل، وكل ما جاء حول ذلك من موضوعات أخرى إنما هو تابع لذلك، وسبيلٌ إليه، يُقرِّره ويُوضِّحه.

ومِن ثَمَّ لم يكن ليصحَّ لدى البيانِ القرآني ترتيبٌ للتركيب هنا غير ما رُتِّبت به الجملة، مِن تقديم المفعول الثاني على تابع المَفعول الأول - كما يُقرِّر النحويون - لأن ذلك الترتيب هو الترتيب المُوافِق لما يَرِد من الآية.

ولو جاء الترتيب هنا مُتفقًا مع الترتيب في سورة المؤمنون لسبَّب ذلك فجوةً واسعةً تُعلن عن غفلة الكاتب - حاشا لله وحاشا لقرآنه أن يقع في مثل ذلك - في لحظة من لحظات حياته الأدبية، كما هو الشأنُ في كل عمل صادِر عن كائن مخلوق أيًّا كان جِنسُه، وأيًّا كانت مَقدرتُه.

وهكذا يرى المُتأمِّل في البيان القرآني أنه في ترتيبه وهيئته يُقدِّم لنا مُعجمًا تركيبيًّا في فنِّ الأداء والتعبير، وما قوانين وقواعد البلاغيين والنحويين إلا مُحاولة لتعليل ما يُلاحِظون، على حسب ما يَنكشِف لهم، وليس لنا أن نُلزم البيان القرآني بما يتوصَّلون إليه مِن قواعد؛ فهو المصدر الأساسي لتلك القواعد والقوانين، إنما علينا أن نُعيد النظر فيما بين أيدينا مِن ذلك على ضوء هذا الكتاب المُعجِز، لنُقرِّر أن ترتيب الجملة ليس له شكل ثابت في كل الأحوال، وأن الترتيب اللازم في حالة قد يُفسِد التعبير في حالة أخرى.

أي إنه ليس هناك ترتيب للجملة هو أصلٌ، وما عداه فرع عليه، وإنما كل ترتيب يُراعى فيه الموقف الذي يُعبِّر عنه يكون أصلاً في بابه، ولعلَّ هذا ما يقصده البلاغيون في الأساس التعبيري الأول وهو: "مُراعاة مُقتضى الحال".

فإذا كان على الأديب في تعبيره أن يُراعيَ مقتضى الحال، كان ما يَقتضيه الحال هنا أصلاً في بابه، وما يقتضيه الحال هناك أصلاً في بابه، وليس أحدهما بأَوْلى بالأصالة من الآخَر.

وهكذا نَصِل من تأمُّلاتنا تلك إلى مِفتاح من مفاتيح الإعجاز البياني في القرآن الكريم، يَكشِف لنا سرَّ أسرار ذلك الإعجاز، ويَقِفنا في ذات الوقت على منهَج في التركيب البياني، يَسمو بأدب الأديب، ويُعين الناقد على وضع العمل الأدبي في مكانه المُناسِب.

ولا يسعني إزاء ذلك - وأنا بين يدي الكتاب الكريم - إلا أن أُردِّد ما ردَّدته وما سوف أظل أُردِّده: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88].



أخبار متعلقة

ملتقى الفصحة

اللغة فكر ناطق، والتفكير لغة صامتة. واللغة هي معجزة الفكر الكبرى. إن